واسيني:” ليلتها أحببت رمادة أكثر..لأنها كانت كائنا من لحم ودم”

بعد حضوره العرض الشرفي لمسرحية “رمادة 19” المقتبسة عن روايته “ليليات رمادة”، التي حول نصها ليمثّل على الخشبة عبد الرزاق بوكبة، أخرجها شوقي بوزيد، وأنتجها المسرح الوطني الجزائري … كتب الروائي واسيني الأعرج على صفحته الرسمية عبر الفايسبوك هذه الأسطر التي استهلها بجملة في شكل عنوان حمّل آخرها إشارة استفهام حيث قال…. 

كانت رمادة مبلّلة بمطر المدينة؟

بعد رحلة جوية استغرقت ثماني ساعات تقريبا، وعاصفة رعدية فوق العاصمة، هزت الطائرة الضخمة مرتين على طرفها الأيسر، حيث ارتسمت لمعات شحنات كهربائية، مع صوت جاف يشبه الانفجار، نزلت الطائرة بسلام فوق جزائر كانت شبيهة لحظتها بأية مدينة أوروبية جميلة، بأمطارها وطرقها، وناسها.

بعد فحص الانتجينيك في المطار (الذي لا معنى له إلا 10 يورو التي يتصدق بها المسافر مرغما) لأن كل المسافرين كانوا حاملين لـ PCR أقل من 48 ساعة وهو أكثر جدارة، ناهيك عن كون الغالبية المسافرة ملقحة، كنت أحسب الوقت الضائع بدقة، على أن أكون في المسرح الوطني على الساعة الخامسة والنصف.

عندما خرجت من المطار كان المطر خيطا من السماء كما كانت أمي  تقول كلما كان المطر غزيرا، ركضت نحو البيت، بالكاد سلمت سائق التاكسي 1500 دينار التي طلبها مني ( التسعيرة الحقيقية لا تتخطى 600 دينار). رفضت أن تسرق مني لحظة الفرح بلقائي بأرض بيني وبينها قائمة من المفقودين وسنتا غياب وغلق دام طويلا..كنت سعيدا فقط أن أشم رائحة أرض جعلتها الأمطار الكثيفة ممكنة.

المطر العاصف غطى عن كل عيوب المدينة

ركبت سيارتي رفقة سؤال واحد: كيف سيكون العرض الذي تابعت تحضيراته وبروفاته عن قرب. كان الطريق السريع ثقيلا بسبب السيارات الكثيرة والأمطار، كنت أستمتع بالأضواء المنكسرة على الاسفلت وزجاج السيارات، عندما وصلت إلى المسرح، أوقفت السيارة ثم ركضت إلى الداخل. دخلت إلى فضاء المسرح مبللا بمياه المطر الساحر الذي لون المدينة وجعلها قوس قزح، كان الأصدقاء ينتظرون في بهو المسرح حيث صور الممثلين الذين أدوا أدوار رمادة 19، تظللهم أفيش كبيرة. جاؤوا من مختلف بقاع الوطن، أن يتحمل امرء عناء المطر، وثقل السفر، ومخاطر الأجواء والطرقات لابد أن يكون في قلبه الكثير من النور والمحبة والشوق.

كلهم كانوا هناك، مدير المسرح الوطني الغالي محمد يحياوي “الحاج”، والمخرج الكبير الصديق شوقي بوزيد، والعزيز عبد الرزاق بوكبة. صعدنا إلى القاعة الشرفية للاستراحة، برفقة الأصدقاء والأهل وبعض المسرحيين، ومنها إلى اللوج، لمشاهدة العرض الشرفي.

أشاهد، وأتأمل من الأعلى، القاعة التحتية الغاصة بجمهور المسرح، مع أني تخيلت أن المطر سيحد من عدد الحاضرين، ما يزال في هذه البلاد الكثير من الحب والجمال والفن، ولا توجد فقط الخيبات القاسية.

بعد سنتين من منافي الكوفيد..كنت كمن يكتشف أرضه الرخوة من جديد

كانت رمادة حقيقة ملموسة، بل كنت أتحسس أصابعها الناعمة في ظلمة العرض، وأنا أكاد لا أصدق، قبل أن تسحبها من كفي مخافة أن يراها أحد، الكثيرون يتهمونها بالجمود لكني كنت اراها غير ذلك.. امرأة عاشقة من رأسها حتى قدميها، تحتاج فقط إلى أن تشعر بهزة شيء غريب فيه من الجاذبية والجنون ما يكفي لتصبح قطرة مطر في مهب الرياح والماء. هل كان ما كنت أراه وأشعر به مجرد استيهامات عرض مس القلب، أم حقيقة، كل تلك الأنفاس القريبة مني حد التماهي، وذلك العطر الفرنسي الأخير، الذي أنساني فيه وجودها، كانت وهما مسرحيا؟ لا يمكن.

و..أحببت رمادة أكثر

 قبل انتهاء العرض بدقائق، لا أدري اليد التي سحبتني باتجاه الركح، وجدتني في ظلمة الخلفية مع كوكبة من الممثلين الذين انتهت أدوارهم، وبعض التقنيين وحاملات باقات الورود، وفجأة سحبني المخرج تحت الأضواء إلى وسط الركح، تحت عاصفة التصفيقات الحادة، لحظة الدوار الجميل، لم تكن كلمتي طويلة لكن أسئلة الصحفيين لم تتوقف: العلاقة بين الرواية والمسرحية؟ كنت هناك في عالم الفرحة والندى وأمطار العاصمة والأصدقاء الذين كان يمكن أن يكونوا هنا، معنا، لكن الكوفيد 19 شاء غير ذلك. العرض كان على شرفهم، لهم الرحمة والسلام، قلت للصحفيين، كم دام العرض؟ لا أدري، لكني كنت سعيدا مثل طفل.  عندما غادرت قاعة العرض، رأيت بريقا في عيون كل من كان هناك، ليس فقط لأن العرض كان ناجحا فحسب، وأن شوقي بوزيد كان مايسترو جميلا، ولكن لأن المسرح كان مدهشا ليلتها، كانت المدينة تهطل فرحا.

عندما فتحت عيني، كانت رحلة الخطوط الفرنسية 777/ 330 قد شرعت في النزول على باريس التي كانت أنوارها قد اشتعلت، وبردها الليلي قد نزل على المدينة، شكرا للمسرح الوطني بكل من كانوا فيه ليلتها، شكرا لم أحب ولم أخيبني، شكرا للمدينة التي جمّلها المطر وأنوار القلوب التي لا تموت.

بقلم الروائي: واسيني الأعرج

شاهد أيضاً

شعرية الرواية في الأداء المسرحي..مصير الحب في قبضة الوباء

عرض ( رمادة19) اقتباس عبد الرزاق بوكبة عن رواية ليليات رمادة للكاتب واسيني الأعرج وإخراج …