علقت زينب ضيف بنص فايسبوكي نشرته على صفحتها تحت عنوان “الحياة بعد زمن الرمادة”، وذلك بعد حضورها العرض الشرفي لمسرحية “رمادة 19” لمنتجها المسرح الوطني الجزائري، مخرجها شوقي بوزيد، مقتبس نصها عبد الرزاق بوكبة، وكاتب روايتها واسيني الأعرج.
بقلم : زينب ضيف
“ليس سهلا هذا الزمن، لكن علينا قبل التآلف معه، أن نفهمه ونعرفه”، على هذه المقولة بنيت رواية “ليليات رمادة”، والمسرحية التي اقتبست عنها، من هنا يمكن القول إن “رمادة” تجسيد للحياة بعد عامين تقريبا من الانكفاء والعزلة.
“مشاهدة عرض مسرحيّ لرواية شهدت ولادتها .. استثناء”
مشاهدة عرض مسرحي لرواية شهدتُ ولادتها مع آلاف الأصدقاء من القراء، شيء استثنائي ومدهش أشبه بأن تفتح عينيك فجأة وأنت تشاهد شخصيات ورقية رافقتك ذهنيا من خلال القراءة، لتصبح شخصيات حقيقية لها صوت وحركة وروح حية، تنبئنا أن ما شاهدناه لم يكن قطعة فنية ولكن حياة مختزلة بشكل متمكن في شكل لوحات متواصلة عندما نجمعها نكتشف السر المخفي داخل النص نفسه وهي أن الحياة أجمل رهان ولا قوة تضاهيها.
طبعا لم تحضر الشخصيات الروائية لتسرد لنا أحداث الرواية بالتفصيل، فالعرض المسرحي قام بما كان يجب أن يقوم به، عَجن الشخصيات وأخضعها لأدواته المسرحية لينتج لنا شخصيات جديدة ربما تتشابه في عمقها البنائي وهواجسها الثقافية والفكرية والحياتية، ومعضلاتها اليومية، ولكن تختلف في تفاصيلها. لتقدم لنا ما ظلّ عالقا بها وهي تخرج من الرواية للمسرح.
“ليس من السهل مسرحة رواية ضخمة جسدت جزءا مهما من الحياة”
كانت فرحتي كبيرة بحضور العرض الشرفي لمسرحية رمادة 19 بالمسرح الوطني “محي الدين بشطارزي” بالعاصمة، من إخراج: شوقي بوزيد، واقتباس الكاتب والإعلامي: عبد الرزاق بوكبة، عن رواية “ليليات رمادة” للروائي واسيني الأعرج، بجزئيها: تراتيل ملائكة كوفيلاد، ورقصة شياطين كوفيلاند.
كان العرض مميزا ويعتبر تحديّا كبيرا بالنسبة للمخرج أولا، إذ ليس من السهل مسرحة رواية ضخمة جسدت جزءا مهما من الحياة في عالمنا المتخلف والمقاوم أيضا، وبشخصيات معقدة في عمل مسرحي محدود الشخصيات ومقيّد بوقت محدد، لكن المخرج بذكائه ورغبته وإصراره، نجح في التقاط المشاهد المفصلية في الرواية دون إعادة إنتاج للرواية، بل قدم قراءة بأدواته المسرحية، معتمدا بذلك على فريق من الممثلين الشباب من طلبة المعهد العالي لفنون العرض والسمعي البصري مزدوجي الخبرة المسرحية بعضهم معروف والبعض الآخر تتاح له الفرصة لأول مرة في التمثيل في عرض كبير ومن إخراج مبدع وفنان حساس، فأبدعوا في عيش أدوار الشخصيات بكل احترافية وبدون خوف بل بإتقان لغوي عربي وبدون أي خطأ مما يظهر أن التجربة مرت ببروفات متعددة حتى اكتملت. لهذا وحده يمكننا أن ننحني تقديرا للمخرج المسرحي الكبير: شوقي بوزيد.
أعجبت بالديكور البسيط والخلفية المعتمة التي كانت تجعل الشخصيات تتحرك في فضاء مجهول ومعتم وهو ما يعكس الفضاء الروائي الذي يملأه الخوف من المجهول والرعب الذي خلفه الوباء في النفوس. وهو خيار مسرحي من المخرج بحيث اعتمد على كل مكونات المسرح التجريبي الذي يعطي الأولوية الكبير للاختزال الذي تعوضه رمزية دافئة وغير منغلقة على نفسها. الفراغ في الفضاء المسرحي الذي لا تملؤه إلا أصوات الألم والاستغاثة اعطى تمايزا مذهلا، وكأن الفراغ ليس فراغا ولكنه مساحة أخرى جانبية من السواد غير المرئي الذي تنتظم المسرحية حوله. في النهاية لا يوجد فراغ لأن ما يرتسم في الذهن من وراء صرخات رمادة في مواجهة بؤس والدها، وظلم كريم زوجها، أو استيقاظ حرائق الغيرة من خلال ميشا، يمنح الركح الذي طغى عليه السواد امتلاء. في كل الأحوال الألم سيد اللحظات.
تشبث العرض بالإيقاعات الموسيقية التي استلهم الموسيقي فيها شيئا من روح ليليات شوبان التي تبدأ بهدوء ونعومة، وتختم اللوحات بعنف يجبر الجمهور على التوقف والتصفيق تعبيرا عن إعجابه، إذ كانت المقطوعات الموسيقىة لشوبان(Les nocturnes de Chopin) في الخلفية تبدو هادئة وناعمة مع بداية العرض وهدوء الأحداث وتزداد حدّة وقوة مع تشابك الأحداث وتعقدّه، فهي تجسد في تنوعها حالة الكونتراست أو التضاد المسرحي الذي ترسمه السينوغرافيا من خلال الإضاءة التي تركز على الفاعلين في المسرحية لإجلاء الظلمة ولو لبرهة زمنية قليلة. الأحمر يتضاد مع الأسود، الأسود يناهض الأزرق، ويصل التضاد إلى الأقاصي في لعبة الأسود والأبيض. لم تكن الألوان شيئا ضافيا ولكنها عمقت قوة الكونتراست في المسرحية. يقابلها في الرواية كل الأحداث المتضاربة التي نسجها النص من خلال سلسلة الصراعات الداخلية النفسية والحياتية بين حياة إيجابية تصنعها الشخصيات الروائية، وأرض “كوفيلاند” في أفق الانفجار، لكن هبري ورمادة وأخوها يسحبونها بالتضحيات نحو بر الأمان، بينما عصابة سوداء تعمل على تفجيرها وهو الصراع الأبدي بين الخير والشر.
“المسرحية حاولت تفكيك صراعات رمادة”
العرض المسرحي ركّز على شخصية رمادة ووضعها وسط أربع شخصيات، شخصيتان ذكوريتان (الاب، الزوج)، كان كل منها يريد رمادة على مقاسه ويحاول أن يصحح أخطاءه بها متعديا بذلك على ذاتها وحريتها بجعلها صورة مطابقة له. وشكّلت الشخصيتان محور صراع ثنائي_ بين (رمادة/ السلطة الأبوية والسلطة الدينية)، (رمادة / السلطة الزوجية) _ رهانه الأساسي هو بحث رمادة عن أناها وتخلصها من القيد الذي وُضعت فيه. وبحثها عن حريتها سواء بمواجهة والدها ومحاسبته بكل جرأة أو بوقوفها في وجه زوجها وطلبها للطلاق للتحرر من أمراضه التي سممت حياتها. وكل من هتين الشخصيتين كان لهما مصير مشترك في النهاية، اذ زالت سلطتهما بموتهما في نهاية تراجيدية.
أما بالنسبة للثنائي الآخر (شادي وميشا) فقد شكلا الجانب العاطفي للرمادة، حيث كان شادي رمزا للحلم والحرية والرغبة المستمرة في الحياة والاستماتة للحصول على هذا الحق، بينما شكّلت ميشا العنصر المضاد الذي يهدد رمادة في حصولها على هذا المبتغى، فكانت ميشا الخطر الذي يهدد علاقتها بشادي وتسببت في اخراج مخزون الغيرة والخوف من خسارتها لمن تحب.
كل هذه الصراعات حاولت المسرحية تفكيكها، فرمادة كانت على مدار العرض المسرحي تتوسط خشبة المسرح الفارغ من اي ديكور سوى حلقة مغلقة ثبتت عليها مرآة متحركة، تجلس رمادة في وسطها على كرسي، هذا ما جعل رمادة أشبه بمحتجزة داخل هذه الحلقة المفرغة، تقف وجها لوجها مع المرآة تصارع نفسها وتصارع بقية الشخصيات.
وهذا الصراع كان يسير في خطين: صراع ظاهري من خلال شخصية رمادة مع بقية الشخصيات، نشأ داخل صراع أكبر وهو الصراع مع الوباء الذي جعل النفس البشرية في لحظات عزلة وتأمل وعودة لذاتها. العرض تراجيدي ولكن ببعد فلسفيّ عميق، وكل تفصيل وحركة لها دلالاتها وايحاءاتها.
والجميل أن المسرح يفتح المجال لتشكيل رؤية جديدة للرواية وخلق تصوّر جديد ومكثف للشخصيات التي خلقتها الرواية ولأحداثها قد يركز على فكرة واحدة ويتوسع فيها وقد يركز على شخصيات ويسقط أخرى، فهو عمل ابداعي لا تحكمه ضوابط وشروط محددة، رهانه الأساسي الحرية وتقديم العمل بكثير من الحب والشغف والاتقان وهو ما لمسناه في هذا العرض.