أعادت مسرحية “البونكي” للمخرج فوزي بن ابراهيم، إنتاج المسرح الوطني الجزائري (2023) بعث واقعة الإبادة التي تعرض لها “الأزتاك” من قبل الإسبان عبر رؤيا جديدة من خلال تقديم نص “المأدبة” لمولود معمري بطريقة درامية على خشبة المسرح الوطني الجزائري، وذلك يومي السبت 18 ماي والأحد 19 ماي 2024.
“نحن نعيش في عصر تحول تكنولوجي مذهل، حيث تغزو التقنيات الحديثة حياتنا بكل سهولة” بهذه العبارات التي ألقتها “أولميدا” التي أدت دورها سالي بن ناصر كإعلان عن تقنيات الذكاء الاصطناعي، انطلق المشهد الأول من المسرحية، تمهيدا لاستعراض تبعات الغزو الثقافي للشعوب وما ينجر عنه من عواقب وخيمة في حال تخلت عن هويتها الثقافية وتقاليدها، وذلك عبر سرد قصة إنسانية من نسج الخيال لكن خيوطها واقعية لامست جمهور المسرح الوطني الجزائري.
ركحيا، تنساق الأميرة التي أدت دورها كاميليا بن ادريسي، وحيدة والدها الملك ومدللته، خلف كذبة التحضر فتسقط في فخه سريعا بالرغم من أنها مثلت صوت الشعب ومنبر انشغالاته طوال الوقت، فسلطة الدلال التي استندت عليها لم تسمح لها بالبوح بكل ما يجول بخاطرها فحسب، بل تحدت جميع من في القصر بما فيهم ابن عمها الأمير الذي لعب دوره نصر الدين جودي وخطيبها الأناني الذي كان همه الوحيد هو الوصول إلى الحكم، غير أن الأميرة المناضلة لم تصمد طويلا أمام إغراءات التكنولوجيا، ولمجرد أن وجدت نفسها بين خيارين انصاعت لأمر المستعمر الغريب على حساب أمتها وهويتها وهو ما سهل أمامه مهمة تدبير مكيدة أسقطت حضارة برمتها في لمح بصر، هذا المصير الحتمي الذي سطره المخرج للأميرة أراد أن يرمز به إلى النهاية التي يلقاها كل صاحب شخصية هشة غير ملتزم بمبادئه.
تاريخيا، لم تلتزم المسرحية بالزمان والمكان الذي تطرق إليه النص الأصلي “الموت العبثي للأزتاك” للكاتب الكبير مولود معمري، حسب ما قال مخرج المسرحية فوزي بن إبراهيم، غير أنها تحاكي برمزية تفاصيل النهاية المأساوية التي لقيها شعب المايان يوما ما على يد الإسبان بسبب سجاذتهم، ويتقفى أثر وهم التكنولوجيا الذي اتخذوه ذريعة للتغلغل وسطهم، لينتهي الأمر بإبادتهم خلال “مأدبة” نظمت على شرفهم.
طوال سبعين دقيقة يترصع الركح بأسماء فنية لامعة مشكلة حضارتين مختلفتين لكل منهما خصوصيتها وتفكيرها وهو ما كان واضحا من خلال اللغة المستعملة والديكور الذي أضفت عليه الإضاءة المعتمدة لمسة سينوغرافية حديثة تبعا للحالة الدرامية المرجوة.
تمثل الحضارة الأولى، يتقدمها الملك “ربيع أجاووت”، سكان المدينة الأصليين مستعملة اللهجة العامية، بينما بدت الثانية معبرة عن المستقبل القادم حاملة لأفكار تنم عن غرابة العالم التي تنتمي إليه وهو ما يتضح من خلال اللباس واللغة العربية الفصحى التي استعملها وفد الوكالة العالمية القادم من أجل التفاوض على العرش بوسائل عصرية مبهرة، ولإضفاء مسحة من الحبكة والتشويق على العرض دفع المخرج البعثة إلى بسط قوتها على السكان الأصليين مستعملة تقنيات الذكاء الاصطناعي، لتتصاعد الأحداث باقتحامها قصر الملك الذي وجد نفسه أمام موقف لا يحسد عليه، وسقوطه ضحية “العشاء الأخير” بسبب تخليه وشعبه عن هويته الثقافية.
وفي المقابل لم يخلو العمل من بعض النكهات الفكاهية مثلا، عند قيام قائد جيوش السكان الأصليين الذي لعب دوره شاكر بولمدايس، بعرض خريطة الحرب على الأمير دون أن ينتبه إلى أنه يحملها باتجاه غير صحيح، وغيرها من المواقف الطريفة التي لطفت الأجواء قبل وقوع المأساة، كما أن تجاوب الجمهور مع العرض بدا واضحا حتى النهاية من خلال كسر الجدار الرابع، واستجابة البعض لدعوة المشاركة في مشهد “المأدبة” بطريقة عفوية جعلت المشهد يبدو قريبا إلى الواقع.
شارك في العمل الذي قام علي عبدون بترجمة نصه واقتباسه عن “مأدبة” مولود معمري أسماء فنية لامعة زادت من قوة العمل جماليته مثل ربيع أوجاوت، محمد الطاهر الزاوي، فؤاد بن بودبابة، سالي بن ناصر حفيظة بن رازي، شاكر بولمدايس، أحمد دحام، نصر الدين جودي، عبد الكريم بريبر كاميليا بن دريسي.